آراء وافكار - مقالات الكتاب

الربيع العربي وآليات المصالحة والإنصاف

الإسلام السياسي في زمن الربيع العربي

فالعالم العربي بعد زمن طويل من السكون والخمول يتحرك ويتغير، ويعيد صياغة المعادلات المحلية والإقليمية على أسس جديدة.. لهذا فإننا نعتقد وببساطة شديدة، إن هذه الأحداث والتطورات مهما كانت نتائجها النهائية، فإنها أدخلت العالم العربي بأسره في مرحلة جديدة وستكون مختلفة عن الحقبة الماضية فالإصلاحات...

(إن خاصية الديكتاتورية أن كل شيء فيها يبدو على ما يرام إلى حد الربع الأخير من الساعة الأخيرة) الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت..

لا ريب أن ما شهدته بعض البلدان العربية من تحول دراماتيكي وسريع في نظامها السياسي سواء على مستوى الزعامات السياسية الأولى، أو في بعض هياكلها الإدارية والسياسية وخياراتها الداخلية والخارجية، وما تعيشه بلدانا عربية أخرى من إرهاصات تتجه بشكل حثيث نحو التغيير والانتقال إلى طور سياسي آخر، يختلف في حدوده الدنيا جزئيا عن الواقع السياسي القائم.. أقول إن ما تشهده هذه البلدان من تحولات لم تكن في الحسبان، ولم تكن متوقعه لدى أغلب المحللين والمهتمين بمصائر العالم العربي..

وإن هذه التحولات والتطورات المتسارعة تثير الكثير من الأسئلة حول طبيعة ما يجري في العالم العربي، ولماذا عبر الشارع العربي عن نفسه بهذه الكيفية، وكيف ستتعامل الأنظمة السياسية مع طموحات شعوبها وحراكها نحو التغيير.. إنها أسئلة محورية تتعلق بما يجري في العالم العربي من تحول وتغيير.. وحتى لا نقع في عملية الاجتزاء والاختزال من المهم هنا التفريق بين الموقف من هذه الأحداث والتطورات وبين تفسيرها.. فإننا كشعوب عربية من المحيط إلى الخليج، تفاعلنا بأشكال ومستويات متفاوتة، مع ما يجري في العالم العربي من تغير وتحول في السياسات والخيارات، وإن هذه التطورات أزالت الركام التاريخي عن عقل ونفس الإنسان العربي الذي ألف اليأس والسكون وإنه ليس بمقدور أحد تغيير ما هو قائم.. فجاءت هذه الأحداث والتطورات، وأزالت كل هذا الركام والرين، وأوضحت بشكل صريح أن الشعوب العربية قد تمرض إلا أنها لا تموت وإن القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة هي التي حركت المياه الراكدة، وإنها هي التي زحزحت ما هو قائم بإرادتها السلمية وصبرها على المكاره والشدائد..

لهذا فإن العمل على تفسير ما يجري، هو في تقديري أهم من طبيعة الموقف الذي نتخذه تجاه ما يجري.. لأن صياغة تفسير دقيق وواقعي لما يجري في العالم العربي، سيساعدنا على أن تكون مواقفنا ورؤيتنا إلى مآلات حركة التغيير دقيقة وموضوعية..

فالعالم العربي بعد زمن طويل من السكون والخمول يتحرك ويتغير، ويعيد صياغة المعادلات المحلية والإقليمية على أسس جديدة.. لهذا فإننا نعتقد وببساطة شديدة، إن هذه الأحداث والتطورات مهما كانت نتائجها النهائية، فإنها أدخلت العالم العربي بأسره في مرحلة جديدة وستكون مختلفة عن الحقبة الماضية..

فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنشدها الشعوب العربية، تحولت عناوينها وأولوياتها لدى الشعوب التي تحركت ونالت ما تريده من عملية التغيير إلى حقائق قائمة وبدأت عجلة التنفيذ بالحركة مهما كانت الصعوبات والعقبات.. فالشعب التونسي بحركته السلمية المذهلة، نقل مطالبه في الديمقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى حيز التنفيذ، وبدأت قوى المجتمع المختلفة تتلمس السبل المناسبة لعملية التحول نحو الديمقراطية..

كما أن الشعب المصري الذي برزت فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة، بدأت تتضح معالم حياته السياسية الجديدة، حيث الحريات الإعلامية والسياسية والتجديد البنيوي في أسس النظام السياسي المصري، وانخراط متعاظم لكل القوى السياسية والاجتماعية في الحياة العامة.. ويبدو من طبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في بلدان عربية أخرى، أن ربيع العرب لا زال قائما، وإن إرادة العرب المتجهة صوب التغيير لا زالت قائمة وحيوية وستصل إلى أهدافها في بلدان عربية جديدة..

وتظهر الوقائع الراهنة في البلدان العربية، أن لكل بلد عربي ظروفه وخصوصياته وأولوياته، ولكن تظهر هذه الوقائع والتطورات، أن طبيعة المشاكل الجوهرية التي تواجه الشعوب العربية واحدة أو متشابهة.. فكل هذه الشعوب تنشد الإصلاح والتغيير، وإنها بنسب متفاوتة تعاني التغييب عن الحياة العامة وصناعة المصير.. لذلك نجد أن الشعارات والأهداف التي حملتها الشعوب العربية، وهي تجوب الشوارع وتعتصم في الميادين واحدة أو متطابقة إلى حد بعيد..

وإن الشعوب العربية تستحق واقعا سياسيا واقتصاديا أحسن وأفضل مما تعيشه.. وإن مقولة الشعوب العربية ليست مؤهلة للانتقال نحو الإصلاح والديمقراطية سقطت، لأن هذه الشعوب عبرت عن نفسها بطريقة سلمية – حضارية، وأبانت بأجيالها المختلفة عن شوقها التاريخي إلى الحرية والعدالة..

فالشباب العربي الذي كان يتهم بالضمور والميوعة وللامبالاة، سطر أروع ملحمة سياسية في التاريخ العربي المعاصر.. فهم الذين تحركوا وحركوا الشارع العربي، وهم الذين بمبادراتهم وخطواتهم المتلاحقة، تجاوزا جميع النخب، وأبانوا أن البطن العربي ولاد، وإن بإمكانه أن ينجب كفاءات وطاقات جديدة، قادرة على تصحيح الاعوجاج وترك بصمات نوعية في مسيرة العالم العربي..

صحيح أن هناك قوى وأطراف عربية، تعمل بوسائل مختلفة لإدامة الشتاء العربي، ولكن وعي الشباب وإصرارهم بوسائل سلمية – حضارية على الإصلاح والتغيير هو الذي أفشل ولا زال تلك المحاولات التي تعمل على تأبيد العالم العربي وإبقاءه في مرحلة السكون والخمول..

وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن طريق التغيير والإصلاح في العالم العربي معبدا، وإنما تعمل القوى المضادة لإدخال المجتمعات العربية في أتون الطائفية والمذهبية والعصبيات المناطقية والجهوية، لكي تعرقل حركة الإصلاح والتغيير.. فالقوى الدافعة على التغيير تعمل على تجاوز هذه الحفر والعقبات، والقوى المضادة تعمل على إدخال حراك الشارع العربي في نفق هذه العناوين، وهي عناوين تعرقل الإصلاح والتغيير، وتجعل المجتمعات العربية بين خيارين مرين: إما استمرار الكبت والاستبداد والفساد، أو الحروب الأهلية، التي تبرز فيها كل التناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية، فينشغل الجميع بالجميع، وتتحول حركة الإصلاح والتغيير من حركة سلمية تستهدف إصلاح الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية العامة، إلى حركة تتصارع مع بعضها البعض إما لاعتبارات طائفية أو مذهبية أو قبلية أو جهوية..

ويبدو أن دفع المجتمعات العربية إلى الاحتراب الداخلي، هو السلاح الأخير الذي تمتلكه القوى المضادة لحركة التغيير والإصلاح في العالم العربي..

لهذا فإن إصرار قوى المجتمع العربي الحية ووعيها، بهذه المخاطر والمزالق، هو الذي سيفشل آخر العقبات التي تحول دون تدفق حركة التغيير في المجتمعات العربية.. لأن الإصلاح والتغيير في العالم العربي هو ضرورة ملحة لكل الفئات والشرائح والمكونات.. وإن جميع المكونات والتعبيرات قد اشتركت في عملية التغيير التي جرت في تونس ومصر، كما أن جميع قوى وفئات المجتمع اليمني والليبي، هي التي تطالب بالإصلاح وتقاوم يدا بيد كل محاولات إجهاض عملية التغيير في هذين البلدين..

ولعل من أهم الثمار الذي سيجنيها العالم العربي، من حركة التغيير والإصلاح التي جابت العديد من الدول، أنها ستعيد تنظيم حقل السياسة، بحيث ستتمكن هذه التحولات من خلق مجال سياسي جديد، يتواصل مع جميع المكونات، ويستفيد من جميع الطاقات والكفاءات.. لأنه حينما " يغيب المجال السياسي المفتوح على كل الإرادات، فإن تناقضات المجتمع وهي – طبيعية وموضوعية – لا تعبر عن نفسها تعبيرا سياسيا بالمعنى الحديث للكلمة، أي لا تجد لنفسها قنوات تصريف ضرورية تحفظ للمجتمع والكيان حقوقه وتوازنه في الآن نفسه..

لذلك عادة ما تميل التناقضات الاجتماعية إلى الإفصاح عن نفسها في أشكال تضع المجتمع الوطني برمته أمام انقسام داخلي حاد، يدمر كل الجوامع والوشائج بين فئاته وقواه المختلفة.. والمشكلة الأبرز لغياب المجال السياسي، هو التعبير عن التناقضات والمشاكل بوسائل عنفية، تدمر الاستقرار السياسي والاجتماعي، تدخل الجميع في أتون العنف والعنف المضاد" (1)..

وعلى كل حال، ما نود أن نقوله هو أن العرب ومنذ اللحظة التي أحرق فيها (محمد البو عزيزي) نفسه في تونس، دخلت مرحلة جديدة، حيث تحولت فكرة الإصلاح والتغيير في بلدان عربية عديدة، من رغبة وشوق تاريخي، إلى حقيقة ملموسة، صنعها الشباب العربي بإرادته وعزمه على بناء مستقبل أفضل للعرب..

* مقتطف من الفصل الأول من كتاب: الربيع العربي ومعضلة الإسلام السياسي

......................
1- مجموعة مؤلفين – في الاجتماع السياسي والتنمية والاقتصاد وفقه الإصلاح – مدخل لتكوين طالب العلم في عصر العولمة – ص204 – الطبعة الأولى – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2010.

اضف تعليق