حالة من العدمية السياسية الهوياتية والانتمائية تتمدد في العالم العربي وتملأ فراغ انهيار وتفكك الأيديولوجيات والانتماءات الكبرى خصوصاً في الدول التي عصفت بها فوضى ما يسمى (الربيع العربي)، وأبرز تجليات هذه العدمية حالة من التيه الفكري والأيديولوجي والهوياتي وفقدان الثقة بالدولة وبكل الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية...

حالة من العدمية السياسية الهوياتية والانتمائية تتمدد في العالم العربي وتملأ فراغ انهيار وتفكك الأيديولوجيات والانتماءات الكبرى خصوصاً في الدول التي عصفت بها فوضى ما يسمى (الربيع العربي)، وأبرز تجليات هذه العدمية حالة من التيه الفكري والأيديولوجي والهوياتي وفقدان الثقة بالدولة وبكل الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية دون طرح بديل توافقي أو رؤية للمستقبل.

العدمية Nihilism فلسفة قديمة يمكن التأريخ لها منذ فلاسفة المدرسة الكلبية أو التشاؤمية Cynicism في اليونان القديمة في القرن الرابع قبل الميلاد وأبرزهم ( Diogenes ديوجين) مروراً بالفيلسوف والشاعر الإسلامي أبو العلاء المعري (363 هـ - 449 هـ) (973 -1057م) إلى الفيلسوف الألماني نتشيه (1844 – 1900) وتيار الفوضوية Anarchism في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع ميخائيل باكونين الذي كان ضد الدولة ومؤسساتها وضد القانون، وقد صدرت كتب ودراسات عديدة عن العدمية في أبعادها وتمظهراتها الفلسفية والفكرية والأدبية والسياسية.

يمكن تعريف العدمية بأنها نزعة أو تصور سلبي وتشاؤمي للحياة في كل أبعادها ومستوياتها من الأخلاق والدين إلى الفكر والأدب والسياسة، نزعة تقوم على ألا معنى وألا يقين وألا ثقة بأي شيء، وهي تعبير عن حالة رفض للواقع ورغبة قوية في تدميره أو على الأقل عدم الاعتراف به، بحيث لا ترى في الواقع إلا سواداً بدون نقاط مضيئة ولا تلمس شيئاً يمكن البناء عليه ولا تعترف بالانتماءات الجامعة الكبرى الدينية أو الوطنية أو القومية أو الأممية.

والعدمية بهذا المعني ليست مجرد نقد للواقع، لا نقد موضوعي ولا حتى نقد هدام، لأن النقد بشكليه السالفين يطرح البديل ويُنظِّر للمستقبل أما العدمية وخصوصاً في بُعدها السياسي فهي تنتقد بشراسة وتنسف المعنى الكامن وراء أي شيء موجود دون أن تطرح حلولاً أو منافذ أمل بالمستقبل.

موضوعنا في هذا المقال ليس التأصيل أو شرح النزعة أو الفلسفة العدمية بل تغلغل هذه النزعة في العقل والفكر السياسي العربي وعند كثيرين من المثقفين والكُتاب بل وتغلغلها في الأدب والفن، وخصوصاً في ظل حالة الفوضى الناتجة عن ما يسمى الربيع العربي وتفكك وتراجع الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية وانكشاف الأيديولوجية الإسلامية وضعف مؤسسات الدولة الوطنية، بحيث سادت حالة من اليأس والاحباط وألا يقين بكل ما هو قائم.

نزعة العدمية السياسية على المستوى الشعبي وفي مجتمعات ترتفع فيها نسبة الجهل والفقر تؤدي إلى التطرف والإرهاب والرغبة في تدمير كل شيء دون أن يكون لدى الإرهابيين رؤية أو تصور عقلاني وواقعي للبديل عما يتم تدميره، كما تكمن وراء عصبويات ما قبل الدولة من عائلية وقبلية وطائفية ومذهبية ضيقة، لأن فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها وقوانينها وبالأحزاب والأيديولوجيات يفكك رابطة الوطنية والقومية الجامعة ويدفع الأفراد لطلب الحماية والتعبير عن ذاتهم من خلال الانتماءات التقليدية، هذا إن لم يهربوا نحو التطرف والإرهاب كما سبق ذكره.

خطورة العدمية السياسية عندما تنتقل من المواطنين العاديين إلى المثقفين ومجال التنظير الفكري، ليس بالكتابة المباشرة عن العدمية أو الدعوة لها، ولكن من خلال المبالغة في نقد الواقع بكل تجلياته الرسمية والشعبية والحزبية ونقد كل مَن يحاول أن يكتب متلمساً بارقة أمل أو فرصة متاحة في بعض تفاصيل الواقع العربي القائم أو في التجربة التاريخية، فكل شيء في نظرهم عدمٌ لا أمل أو رجاء منه، فالوطنية شوفينية وأكذوبة، والقومية العربية سراب ووهم، والإسلام إرهاب وفتنة وتخلف، مستشهدين في ذلك بأسوأ النماذج والتطبيقات، دون تقديم إجابة عن السؤال: من نحن؟.

هذه النزعة لا تعبر عن واقعية سياسية أو فكر ثوري أو شجاعة كما لا يمكن إدراجها في سياق الطُهرية أو المثالية السياسية ما دامت لا تطرح البديل عن الواقع ولا تناضل لتغييره، إنها أقرب إلى حالة اسقاط العجز والفشل والإحباط الشخصي والفكري على كل شيء والهروب من عمل أي شيء جديد أو تجديد قديم يمكن البناء عليه. هذا النمط من التفكير العدمي يريدها قطيعة مع كل شيء دون وصل مع أي شيء أو رؤية تؤسس لبداية واعدة بشيء

عندما نخص الحالة العربية في الحديث عن العدمية السياسية على مستوى الهوية والانتماء لأنه ما بين المحيط والخليج وهي الحيز الجغرافي الذي يسمى العالم العربي نجد شعوباً وقوميات وثقافات فرعية تستنهض قواها وتستحضر تاريخها بل وتسعى لبناء دولتها القومية، سواء تعلق الأمر بالأمازيغ أو البربر في بلاد المغرب العربي أو الأكراد في المشرق العربي وهم محقون في ذلك، بالإضافة إلى نزعات قومية ودينية أخرى، كما أن دول الجوار – إيران وتركيا بالإضافة إلى الكيان العنصري الصهيوني- تسعى لإحياء مشاريعها القومية والدينية والتمدد على حساب العالم العربي، بينما العرب وهم الأكثر عدداً في المنطقة لا يوجد لهم الآن مشروع قومي عربي ولا نلمس أي حراك لإحياء هذا المشروع، وعندما يتحرك أو يكتب البعض مطالباً باستنهاض القومية العربية والمشروع القومي العربي يتصدى لهم العدميون مشككين بالعرب والعروبة معتبرين أن من يتحدث في هذا الموضوع إما حالم وغير واقعي أو عنصري معادي للقوميات الأخرى، حتى حديث الوطن والوطنية أصبح ممجوجا وغير مقبول عند العدميين العرب.

العرب الذين يشكلون أكثر من 80% من السكان ما بين المحيط والخليج ليس لهم دولة قومية ولا مشروع قومي ولا زعيم أو زعماء قوميين ولا أمن قومي ولا اقتصاد قومي ويعتمدون على الخارج لحماية كياناتهم الهزيلة كما غاب عن مجال التنظير المفكرون القوميون إلا قلة قليلة، بينما كل القوميات الأخرى في المنطقة لها مشروعها القومي وزعماؤها القوميون وتسعى لتأسيس دولتها القومية وبعضا قطع شوطا طويلاً في هذا السياق ويعتمدون على قوتهم ووحدتهم القومية ولا يترددون في النضال المسلح لتحقيق وجودهم القومي، فلماذا يجوز للآخرين ما لا يجوز للعرب؟ ولماذا غير مسموح للعرب دون غيرهم أن يكون لهم مشروعهم ودولتهم القومية؟ !!!.

[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق