الفكر بحاجة إلى النقد لكي يتواصل مع الأفكار والثقافات والمعارف الأخرى، تواصل تثاقف وتفاعل وتناقد، وفي مثل هذه الحالة يكون الفكر بحاجة إلى التواصل النقدي ليكون تواصلا فعالا، فالتواصل لا بد منه لكن بشرط أن يكون نقديا، لكي نعرف ماذا نأخذ من الأفكار والثقافات والمعارف الأخرى، وماذا نرفض...

الأصل في الفكر أن يتصل بالنقد ويتلازم معه ولا ينقطع، كما أن الأصل في النقد أن يتصل بالفكر ويتلازم معه ولا ينقطع، الأصل هنا بمعنى أن الفكر بحاجة إلى النقد والنقد بحاجة إلى الفكر.

الفكر بحاجة إلى النقد هي حاجته للحركة، ونعني بالحركة خلاف السكون، فالنقد دال على الحركة في الفكر، وبالنقد يكشف الفكر عن حركته، والفكر مسكون عادة بهاجس الحركة لكي يعبر عن حضوره، ويعلن عن وجوده، فليس هناك حضور بلا حركة، وليس هناك وجود بلا حركة.

والفكر الذي يولد النقد هو فكر يولد حركة، ويكون قادرا على توليد الحركة، ومتخطيا آفة السكون، ويصح وصفه بالفكر المتحرك، أما الفكر الذي لا يولد حركة فهو فكر مصاب بالسكون، ويصح وصفه بالفكر الساكن، ويكون معرضا للتقلص والانكماش.

والفكر بحاجة إلى النقد ليكون النقد حاسة الفكر في النظر إلى الواقع، وهي حاسة تفحص وتبصر وتشريح وتفكيك، ومن خلال هذه الحاسة النقدية يتم تعقب الخلل، وتبين الضعف، وتبصر الإعوجاج، وتلمس الحاجات.

والفكر بحاجة إلى هذه الحاسة في علاقته بالواقع لتكون علاقة نقد متفحص ومتبصر، وهذه هي أفضل علاقة يقيمها الفكر مع الواقع ومع المجتمع، وبهذا الحال يصح وصفه بالفكر الناقد، فلا ينبغي للفكر أن يستسلم للواقع ويركن له ويهادنه على علله وعلاته، ولا يحصل هذا الحال إلا إذا فقد الفكر حاسة النقد، وعندئذ يمكن وصفه بالفكر الراكد أو الجامد.

والفكر بحاجة إلى النقد كذلك لكي يتنبه لذاته، فكما أن النقد هو حاسة الفكر للنظر إلى الخارج والتعامل مع الموضوعات الخارجية، فهو حاسته كذلك للنظر إلى الداخل والتعامل مع الموضوعات الذاتية.

والفكر بحاجة لأن يتنبه لذاته وبصورة دائمة ومستمرة، لكي يحافظ على يقظته وحيويته وحضوره، وهذه هي ميزة الفكر الذي يتنبه لذاته، وبهذا الحال يمكن وصفه بالفكر اليقظ، أما الفكر الفاقد لهذه الميزة فهو فكر لا يتسم باليقظة فلا يستطيع أن يواكب عصره، ويتفاعل مع زمنه، ويتواصل مع ما حوله، ويكون معرضا للإصابة بالتراجع والتوقف.

كما أن الفكر بحاجة إلى النقد لكي يتواصل مع الأفكار والثقافات والمعارف الأخرى، تواصل تثاقف وتفاعل وتناقد، وفي مثل هذه الحالة يكون الفكر بحاجة إلى التواصل النقدي ليكون تواصلا فعالا، فالتواصل لا بد منه لكن بشرط أن يكون نقديا، لكي نعرف ماذا نأخذ من الأفكار والثقافات والمعارف الأخرى، وماذا نرفض! وأين يكون التفاعل والاشتراك، وأين يكون التحفظ والتوقف!

هذا من جهة الفكر وحاجته إلى النقد، أما من جهة النقد فهو بحاجة إلى الفكر لكي يكون نقدا متبصرا ومتماسكا ورشيدا، فالنقد بوصفه فعلا وفاعلية إنما يستمد بصيرته من الفكر إن كان نقدا فكريا، وكل فعل بحاجة إلى نظر يتبصر به، ويستمد منه بصيرته، ونعني بهذا التبصر أن يسلك النقد طريقا واضحا يعرف بدايته، وتتابع خطواته، ويتفطن إلى ما يريد الوصول إليه.

وشرط التماسك في النقد، لكي لا يكون النقد مشتتا ومبعثرا ومتفرقا من ناحية المسار، وأن لا يكون هشا وهزيلا وضحلا من ناحية المحتوى.

وشرط الرشد لكي لا يكون النقد عبثيا وفوضويا وعدميا، بأية ذريعة كانت، وتحت أية واجهة حصلت، لا بذريعة كسر القيد عن النقد، ولا بذريعة إطلاق عنان النقد، ولا بذريعة لا وصاية على النقد، ولا حتى بذريعة لا ممنوعات أمام النقد ولا محرمات، وغيرها من الذرائع التي تستخف من عنوان الرشد وتعرض عنه، فليس من غاية الرشد الحد من النقد ولا تقييده أو تخفيض فاعليته، وإنما ليكون نقدا معتدلا ومتوازنا وعقلانيا.

أمام هذه القضية وتحليلها النظري، هناك خبرتان تطبيقيتان تحضران عند الحديث عن العلاقة بين الفكر والنقد، الخبرة الأولى تنتمي إلى المجال الأوروبي الحديث وترجع زمنا إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، ونعني بها خبرة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، والخبرة الثانية تنتمي إلى المجال العربي المعاصر وترجع زمنا إلى العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ونعني بها خبرة المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري.

بشأن الخبرة الأولى، اعتقد كانت أن عصره هو عصر النقد، أو هكذا هو أراد حين تقصد استعمال كلمة نقد في المؤلفات التي أصدرها في الشطر الأخير من حياته، ابتداء من كتابه الشهير (نقد العقل الخالص) الصادر سنة 1781م، مرورا بكتابه (نقد العقل العملي) الصادر سنة 1788م، وصولا إلى كتابه (نقد ملكه الحكم) الصادر سنة 1790م.

وأراد كانت من هذه المؤلفات أن يدشن بنفسه هذا العصر النقدي، ويجعل من النقد وجهة الفكر، معتبرا أن عصره هو عصر النقد الذي يجب على كل شيء الخضوع له، وناظرا إلى أن الهدف الأسمى لهذه الحركة النقدية هو خلق سبب لتحسين المجتمع.

وقد حقق كانت فتحا عظيما للفلسفة الأوروبية، وسما بالعقلانية إلى القمة، وأصبح النقد هو علامة الفلسفة، وبات يقال إن كانت أحدث ثورة في الفكر تعادل ما أحدثه نيوتن من ثورة في العلم.

وبشأن الخبرة الثانية، أراد الدكتور الجابري أن يتمثل في عصره موقعية كانت في المجال العربي، سالكا دربه، متقصدا استعمال كلمة نقد مقترنة بالعقل، متوجا بهما مشروعه الفكري الموسوم بنقد العقل العربي، منطلقا من خلفية إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة، فلا يمكن بناء نهضة من دون عقل ناهض، مقدما لنا أهم خبرة في دراسة وتحليل تكوين العقل العربي وبنيته.

والحكمة التي نريد الانتهاء إليها هي أن لا خشية من الفكر حين يكون نقديا، لكن الخشية حين يفقد الفكر فاعلية النقد، ويبقى السؤال متى يبدأ عصر النقد الفكري عندنا!

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق